الصورة المبهرة التي طبعت في أذهان قطاع كبير من المصريين في السنوات الأخيرة عن طيب رجب أردوغان رئيس وزراء تركيا، انقلبت إلى بغض مستتر خلال حكم الإخوان المسلمين، وبعد السقوط السياسي والفشل الإداري تحولت إلى كراهية معلنة. وأصبح قائد التجربة الساحرة، اقتصاديا وسياسيا، لحزب العدالة والتنمية عند البعض، بمثابة شيطان رجيم، لأنه حاول ممارسة دور متغطرس مع عموم المصريين وقيادتهم، ووقف بصلف مع الإخوان، وأيد جميع الخطوات العشوائية والتصورات الفاشلة، ولم يرفض الاعتراف فقط بثورة الثلاثين من يونيو- حزيران الماضي، بل قاد حملة شرسة ضد السلطات الحاكمة الآن في مصر، بصورة أطفأت أي ذرة سحر بهرت كثيرين في وقت من الأوقات. لكن للعلاقات بين القاهرة وأنقرة جوانب إقليمية ودولية مهمة، تستوجب الوقوف عندها ورصد تداعياتها.

 

البعض يعتقد أن قرار طرد السفير التركي في القاهرة جاء متأخرا بعض الشيء، وأنه كان من الواجب اتخاذه عقب التصريحات والمواقف السيئة لأردوغان التي تزايدت بعد فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة في 14 أغسطس- آب الماضي، لأنه تجاوز كل الأعراف والتقاليد بتدخله السافر في الشئون المصرية. وهناك من تحدث عن جملة من الخسائر الاقتصادية التي سوف تتكبدها مصر جراء هذا الطرد. وهكذا تشعبت بورصة التقديرات والتكهنات المتشائمة. لكن في الحقيقة أن القرار يبدو مدروسا بدقة، ولم تغب عنه التقلبات الحاصلة في البيئة الإقليمية والتعقيدات التي تحيط بكثير من التفاعلات الدولية. ويمكن التوقف عند ثلاثة محددات رئيسية عززت القرار المصري، وضاعفت من أهميته السياسية.

 

الأول، التحسن الواضح في علاقات مصر الخارجية، والذي ظهرت تجلياته في تطوير العلاقات مع روسيا، ودخولها مرحلة متقدمة من التعاون، وتغير الموقف الأميركي، بشكل أضحى قريبا من الخندق الذي تقف فيه الدولة حاليا، والداعم لخريطة الطريق، كما أن تصريحات جون كيري زير الخارجية التي اتهم فيها الإخوان بـ "سرقة ثورة يناير- كانون الثاني" علامة فارقة في هذا التغير، وخصما محوريا من رصيد الجماعة. بالاضافة إلى الكلام حول استئناف ضخ المساعدات الأميركية، والاستعداد للدخول في مرحلة متقدمة من الحوار الاستراتيجي. ناهيك عن التغيرات المتلاحقة في مواقف غالبية الدول الأوروبية، وارتفاع مستوى التصنيف الائتماني لمصر لأول مرة منذ حوالي ثلاثة أعوام، الأمر الذي انعكس على بدء الحديث عن استثمارات أجنبية في مصر، ورفع معظم دول العالم الحظر عن شركاتها. كما أن الأرض التي تقف عليها القيادة المصرية أشد صلابة من ذي قبل. يضاف إليها الإنهاك الذي حل بالإخوان على مستوى الحشد الشعبي، والذي أجبرهم على اللجوء إلى التبكير بمرحلة الإغتيالات. بمعنى آخر، أن دعم السيد أردوغان للجماعة فقد جزءا أساسيا من مفعوله الخارجي.

 

الثاني، علامات التطمين الاقتصادي التي وصلت إلى مصر من دول خليجية عدة، أكدت أن هناك أفقا جيدا للتعاون على المستوى العربي، يعوض أي ضرر يمكن أن يحدث بسبب اقدام تركيا على تخفيف حضورها الاستثماري. وإذا كانت نسبة التبادل التجاري تصل إلى 4.2 مليار دولار بين البلدين وأن ميزان التبادل التجاري يميل لصالح أنقرة، فإن حجم الأضرار سوف تكون أكبر عليها، لأن القاهرة تستطيع أن تجد البدائل لواردات السلع القادمة من تركيا، طالما أن التمويل متوفر، لكن الأخيرة قد تجد صعوبة في إيجاد أسواق بديلة. كما أن جزءا من الاستثمارات التركية في مصر لا يتبع أردوغان أو حزبه، فهناك رجال أعمال ربما لا يتأثرون بالخلافات السياسية الراهنة، للتباين في توجهاتهم مع حكومتهم، ولأن الحكومة المصرية قدمت تطمينات لهؤلاء، وشددت على الروابط التاريخية بين الشعبين، واتاحة المجال للعمل والاستثمار بلا منغصات سياسية. وحتى منحة المليار دولار التي قدمتها أنقرة للقاهرة إبان عهد الإخوان يصعب سحبها قبل مرور خمسة أعوام حسب الاتفاق. لذلك فالورقة الاقتصادية التي يتغنى بها مريدو أردوغان سقطت قبل أوانها.

 

الثالث، امتلاك الحكومة المصرية لأدلة دامغة على تورط الحكومة التركية في دعم التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين، المسؤول عن الدعم والتخطيط لكثير من الأحداث الإرهابية التي وقعت في مصر مؤخرا. كما أن أنقرة تدعم تحركات أعضائه لزيادة حدة الأزمة السياسية. ولم تعد تصريحات أردوغان المستفزة خافية على أحد، وترويجه لأكاذيب تنال من القيادة المصرية لم تنطل على أصغر مواطن شريف في مصر. وقيل أن سفيره (المطرود) في القاهرة لعب دورا لافتا للتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد، بصورة تتعارض مع القواعد الدبلوماسية. وكلها عوامل هيأت الفرصة لاتخاذ قرار طرده غير مأسوف عليه. وعندما حاولت أنقرة الحفاظ على ماء الوجه واتخاذ خطوة مماثلة، فشلت في تحقيق هدفها، لأن السفير المصري لديها موجود في القاهرة منذ 15 أغسطس- آب الماضي، حيث تم استدعائه للتشاور ولم يعد إلى مقر عمله في أنقرة.

 

الخطوة التي أقدمت عليها مصر، اعتبرها كثيرون دليل ثقة بالنفس، وإشارة على رغبة في ممارسة دورها الإقليمي، وتأكيد على أن تدخلات أردوغان لا يمكن السكوت عليها، وأن مصر تتعافى وتركيا تتراجع. لكن أنقرة لديها ورقتين سوف تسعى خلال الأيام المقبلة إلى محاولة استثمارهما للضغط على الحكومة المصرية.

 

الأولى، توفير الرعاية والغطاء السياسي لبعض التحركات التي تقوم بها منظمات تابعة للإخوان على أمل محاكمة عدد من المسؤولين أو إحداث زوبعة سياسية، بينهم الفريق أول عبدالفتاح السيسي وزير الدفاع، بذريعة ارتكاب انتهاكات ضد حقوق الإنسان. وهذه الفرية مردود عليها، لأن تدخلات المؤسسة العسكرية كانت لحماية الأمن القومي الذي هدده الإخوان، وأرقام الضحايا التي تروجها الجماعة مبالغ فيها. والأهم أن جرائم الإخوان موثقة ومسجلة بالصوت والصورة في حق المواطنين والضباط والجنود. وهناك حملة لجمع المزيد من الأدلة، لقطع الطريق على هذه التحركات المشبوهة.

 

أما الورقة الثانية، فهي تتعلق بالميول التركية الجديدة نحو اصلاح علاقاتها مع كل من ايران والعراق، ومحاولة تجاوز المطبات السياسية والأمنية في سوريا وغيرها، والتلويح لدول الخليج الداعمة لمصر أنها يمكن أن تتأثر سلبا بسبب هذا التأييد. لكن هذا الاتجاه سوف يكون مكلفا بالنسبة لأردوغان لأنه حتما سيدفعه إلى دفع ثمن باهظ في سوريا وشمال العراق، لن يستطيع دفعه والانتخابات على الأبواب. بالتالي، إذا كان سحر "الأردوغانية" انطفأ في مصر، فإن بريقها في المنطقة على وشك الأفول، بعد دخولها مرحلة تساقطت فيها بعض الأقنعة التي ارتداها صاحبها على مدار نحو عشر سنوات متصلة.

 

محمد أبو الفضل