عام 1990 انتهت الحرب الاهلية اللبنانية. يومها استسلم المتحاربون والقوى التي كانت تقف وراءهم لمبدأ "لا غالب ولا مغلوب"، غير أن ذلك المبدأ لم يكن إلا شعاراً. لقد خسر الجميع في الحقيقة وحين يتعلق الأمر بالخسائر التي تنتج عن الحروب فان المقارنات لن تكون نافعة في شيء. مَن خسر أكثر ومَن خسر أقل؟ بعد خمسة عشر عاماً، وهي الزمن الذي استغرقه بطش اللبنانيين، بعضهم بالبعض الآخر اكتشف المتحاربون عبثية الادوار التي كانوا يقومون بتمثيلها على مسرح بلادهم التي صارت تختفي تدريجيا.

 

خسر الجميع وكان لبنان هو الخاسر الاكبرnمنذ أكثر من ثلاث وعشرين سنة صارت المدن والبلدات والقرى اللبنانية تنام على كوابيس حرب لم يعد أحد يطيق التفكير فيها أو يرغب في استعادة فصل صغير من فصولها صحيح أن شبح الحرب لم يغادر الكلام السياسي، غير ان ذلك الكلام لم يجد أمامه الطريق سالكة في اتجاه الترجمة الواقعية. كان جيل الحرب قد توارى تدريجياً وظهرت أجيال جديدة كانت الحرب بالنسبة مجموعة متلاحقة من الحكايات المأساوية التي لا تنطوي على اي نوع مشرف من البطولة.

لم تعد الحرب ممكنة إلا في طرابلس، عاصمة الشمال اللبناني.

 

كما لو أن يداً مشؤومة مسحت عتبة بابها ببقايا غبار السحر الأسود. لم تهنأ طرابلس بالسلم الذي وضعت المدن اللبنانية رأسها على وسادتها ونامت بعد اتفاق الطائف كان سلماً حذراً، قلقاً، تطوف حوله أشباح الشك والريبة ولكنه أثبت صلابته ووقف أمام آلة القتل المجاني، عطلها واوقف ضجيج زحفها فصار اللبنانيون قادرين على الانصات إلى أنفاسهم وهم على يقين من أن ليس هناك مَن يقف وراء الباب ليحصي تلك الأنفاس.

 

طرابلس كانت الاستثناء حربها مستمرة. لا يزال القتل المجاني ممكنا في أية لحظة. لا يعرف المرء فيها متى يقتل ومَن سيقتله. القناصة جاهزون ولا يحتاج الأمر إلى استعدادات وتحذيرات. فالمدينة في حالة حرب دائمة. وهي حرب عارية عن الصحة، فيها الشي الكثير من الشعور بالعار والخزي.

 

فهل يكفي أن يكون المرء علوياً سبباً لكي يُقتل؟

 

ما يصح على العلوي يصح على السني، بالقوة نفسها بين جبل محسن وباب التبانة صارت ملائكة الموت تتنقل بيسر. هناك حديث غامض عن خلاف مذهبي، وهناك حديث أكثر غموضا عن خلاف سياسي.ومع ذلك فان الخلافين، المذهبي (في اطار الدين الواحد) والسياسي (في اطار التخندق وراء معادلات تعيشها سوريا وليس لبنان) لا يبيح القتل.

 

هناك قدر هائل من الشر في فكرة أن المرء يستحق القتل إذا كان شيعياً مثلاً أو إذا كان اسمه بولص أو عمر أو إذا كان قادماً من منطقة يسكنها الدروز أو الكرد. فكرة تنطوي على التمييز بين البشر على أساس انتمائهم العرقي والديني لا على اساس مواهبهم وكفاءاتهم واخلاصهم للقيم النبيلة طرابلس مدينة استولى عليها الشر وصارت مختبراً لنزعاته المدمرة.

 

أهل طرابلس يذبح اليوم بعضهم البعض الآخر من أجل سوريا، فهل سيكون ذلك الذبح نافعاً لسوريا، في وجهيها، الحاكم والمعارض؟ أبدا. مقتل علوي في لبنان لن يضعف النظام السوري وكذلك الأمر بالنسبة لسني لبناني كان قد وجد في تسننه مناسبة لنصرة المعارضة السورية.

 

لقد تمكنت الكراهية من عقول وقلوب سكان تلك المدينة. سيكون كل حديث ذي طابع مختلف ضرباً من الخرافة. صارت المدينة منذورة لحرب لم تنته بعد. حرب خلص المشاركون فيها في باقي اجزاء لبنان إلى عبثيتها، غير أنها في طرابلس صارت تجدد أسبابها التي لا يتصف أي واحد منها بشعور إنساني أو وطني خالص. كلها أسباب تنتمي إلى مرحلة العبث واللامعقول اللبناني الذي سبق اتفاق الطائف طرابلس محكومة بتاريخ الحرب التي لا تنتهي.

 

فاروق يوسف