أغلقت مصر باب الحرب مع اسرائيل يوم ذهب الرئيس الراحل أنور السادات الى القدس في تشرين الثاني- نوفمبر 1977. فرض ذلك واقعاً جديداً في المنطقة لم يعد من مفرّ التعاطي معه...الاّ في حال كان هناك من يريد متابعة عملية الهروب من هذا الواقع عن طريق افتعال معارك في محيطه العربي على غرار ما فعل، وما لا يزال يفعل، النظام السوري.

 

رفع هذا النظام، منذ وضعت حرب تشرين أوزارها، شعار "الانتصار على لبنان بديلا من الانتصار على اسرائيل". بعد ذهاب السادات الى القدس وتوقيع مصر معاهدة سلام مع اسرائيل في آذار- مارس 1979 اندفع النظام السوري أكثر في وضع هذاالشعار موضع التنفيذ...على اجساد اللبنانيين أوّلا.

 

قبل تسعة عشر عاماً، وقعت الاردن اتفاق سلام مع اسرائيل. كان ذلك ثاني معاهدة سلام توقعها دولة عربية مع الدولة العبرية بعد كلّ هذه السنوات، التي مرّت على المعاهدتين المصرية ـ الاسرئيلية والاردنية ـ الاسرائيلية، يتبيّن كم كان الملك حسين، رحمه الله، بعيد النظر. لم يكن بعد نظره محصوراً في حماية المملكة الهاشمية ومواطنيها، كلّ مواطنيها، فحسب، بل تعدّى ذلك الى حماية القضية الفلسطينية أو ما بقي منها أيضاً.

تكمن عبقرية الملك الراحل في أنّه استغل اللحظة المناسبة لتوقيع اتفاق سلام حمى حقوق الاردن في الارض والمياه من جهة ورسم حدود الدولة الفلسطينية التي قد ترى النور يوما من جهة أخرى ما الذي كان سيحصل لو لم يفكّر الملك حسين في كيفية التوصل الى اتفاق السلام، الذي وقّعه من الجانب الاردني رئيس الوزراء، وقتذاك، الدكتور عبدالسلام المجالي في وادي عربة؟

 

لولا اتفاق السلام، كان مستقبل الاردن في مهبّ الريح، خصوصاً أنّه كانت هناك قوى عربية، على رأسها النظام السوري، تعتقد أن المتاجرة بالاردنيين والاردن هدف في حدّ ذاته كان مطلوبا أن تظلّ الاردن في وضع الدولة المعلّقة التي تصلح ورقة في سياسة الابتزاز الذي مارسها النظام السوري الذي لم يكن يوما، خصوصا بعد حرب 1973، قادرا لا على الحرب ولا على السلام. صار هدف هذا النظام، بعد التوصّل الى اتفاق فصل القوّات مع اسرائيل في العام 1974، يتمثّل في ابقاء الوضع في الجولان المحتل على حاله. صار الانتصار على لبنان والتغول في تشجيع الحرب الاهلية فيه، عن طريق استخدام المسلّحين الفلسطينيين، ذروة الوطنيّة. حدث ذلك على أرض الواقع من منطلق أن الانتصار على لبنان بديل من الانتصار على اسرائيل!

 

ما رفضته الاردن، بفضل ما كان يملكه الملك حسين من فكر سياسي متطوّر، يتمثّل في رفض حال اللاحرب واللاسلم التي لا يمكن أن يستفيد منها اي طرف اقليمي باستثناء اسرائيل. قطع الملك حسين بكلّ بساطة الطريق على مشروع "الوطن البديل" الذي يهدّد الامن العربي والذي كانت مجموعات اسرائيلية كبيرة تطالب به من منطلق انه الطريق الاقصر لايجاد حلّ للقضية الفلسطينية حلّ على حساب الاردن بصفة كون المملكة الهاشمية الدولة الفلسطينية الموعودة، بينما الضفة الغربية "أرض متنازع عليها".

 

ما لم يفهمه كثيرون أنّ معاهدة السلام الاردنية ـ الاسرائيلية قضت على مشروع "اسرائيل الكبرى" وعلى مشروع "الوطن البديل" الذي طالما نادى به ارييل شارون. عمل شارون منذ ما قبل وصوله الى موقع رئيس الوزراء، مطلع العام 2001، الى القضاء على أي أمل في اقامة دولة فلسطينية بقيت الاردن حاجزا في طريق طموحات شارون وأمثال شارون. يعود الفضل في ذلك الى الملك حسين الذي ادرك في العام 1994، عندما كان لا يزال اسحق رابين حيّا، ان هناك لحظة تاريخية لا بدّ من استغلالها.

لم يقدم على خطوة من هذا النوع الاّ بعد توقيع اتفاق اوسلو في العام 1993 في حديقة البيت الابيض. لم يحسن الفلسطينيون في تلك المرحلة استغلال عامل الوقت، في حين كان النظام السوري مهتما بكيفية ابتزاز العرب واستكمال وضع يده على لبنان بدل تحرير أرضه المحتلة.

 

لا حاجة الى تعداد ما أقدمت عليه الاردن من خطوات لا يتجرّأ آخرون عليها. لا يمكن الاّ أن ينصف التاريخ الملك حسين الذي لم يتردد في العام 1985 من اعادة العلاقات مع مصر بعدما تبيّن أن لا فائدة من مقاطعتها نتيجة توقيعها معاهدة سلام مع اسرائيل من المفيد التذكير الآن بأنّ الملك عبدالله الثاني حافظ على الدور الريادي للاردن في مجال اتخاذ مواقف جريئة تؤكد أنّ لا مفرّ من الوضوح من جهة وتفادي للرضوخ للشارع والغوغاء من جهة أخرى.

 

ثمّة حاجة الى قادة يقودون الشارع ولا ينساقون له. لم يتردد عبدالله الثاني في اتخاذ المواقف وتنفيذ السياسات التي تخدم الاردن خصوصا والعرب عموماً. لعب دوراً أساسياً في ضبط الاخوان المسلمين الذي راحوا ينادون بالتغيير. لم يتردد بعض هؤلاء في الدعوة الى الغاء اتفاق السلام مع اسرائيل وذلك تنفيذا لطموحات اليمين فيها. لا يزال هذا اليمين يحلم بـ"اسرائيل الكبرى".

 

وضع عبدالله الثاني الاخوان حيث يجب وضعهم، أي أعطاهم حجمهم الحقيقي، مستعينا بالشعب الاردني الذي أقبل على صناديق الاقتراع بكثافة في الانتخابات الاخيرة مطلع السنة. انتجت الانتخابات مجلساً نيابياً يمكن أن يشكّل، على الرغم من ادائه المتواضع، خطوة صغيرة على طريق قيام الحياة الحزبية السليمة في بلد يعاني من أزمة اقتصادية عميقة ومن الانهيار السوري في الوقت ذاته.

 

لم يكن عبدالله الثاني يريد اقصاء الاخوان. على العكس من ذلك، كان يؤكّد أنّهم جزء من النسيج الوطني الاردني. ولكن على الرغم من الحاحه عليهم من أجل المشاركة العملية السياسية، كانوا يصرّون على الرغبة بالمشاركة وفق شروطهم وشروط المرشد العام في القاهرة. كانوا يريدون امّا الكعكة أو المقاطعة. خذلهم المواطنون الاردنيون من منطلق رفضهم للاحزاب الشمولية ووصاية "المرشد" المقيم في القاهرة...ولقانون للانتخابات مفصّل على قياس فريق معيّن.

 

لم تقتصر جرأة عبدالله الثاني على الداخل الاردني. لعبت الاردن الدور المطلوب في دعم مصر و"ثورة الثلاثين من يونيو" لذلك، ذهب الملك الى مصر لتأكيد دعم الثورة الشعبية على الاخوان. في السياق ذاته، لم تتردد الملكة رانية في قول كلام جريء عن أهمية التعليم. تحدّثت صراحة في لقاء تلفزيوني مع الزميلة منتهى الرمحي في "العربية" عن ضرورة الثورة التعليمية وأهميتها على الصعيد الاقليمي كي يكون اداة في مواجهة التخلّف بكلّ أشكاله. قلائل في عالمنا العربي يتحدثون عن أهمّية التعليم بهذه الصراحة التي سبق أن اعتمدها الشيخ نهيان بن مبارك وزير الثقافة في دولة الامارات العربية المتّحدة حالياً ووزير التعليم العالي سابقاً.

 

من الحسين... الى عبدالله بن الحسين، هناك جرأة أردنية. جرأة في التصدي الفاعل والفعلي وافعّال للمخططات الاسرائيلية وجرأة في التصدي للتخلف العربي الذي يمثله الاخوان المسلمون حالياً...وجرأة في كشف المشروع الايراني الذي يهدّد كلّ ما هو عربي في المنطقة.

 

من يتذكّر أن عبدالله الثاني كان أوّل من كشف الطابع المذهبي لهذا المشروع في حديث نشرته صحيفة "واشنطن بوست" في تشرين الاوّل- أكتوبر 2004؟

 

خيرالله خيرالله