في إحدى خرجاته "الدونكيشوتية"، وردا على من ظل يعتبرهم "تماسيح وعفاريت"، من الذين يتصدون لكبواته ويؤاخذونه على حشر حكومته في نفق مغلق، جراء سوء اختياراته وعدم قدرته على ترجمة تعهداته، إلى إصلاحات ملموسة عبر استراتيجية واضحة المعالم، قال السيد: ابن كيران ذات مرة في معرض مداخلته أمام شبيبة حزبه،  بكلمات مفعمة بمشاعر الفخر والاعتزاز : "يكفي هذه الحكومة شرفا، أنه بعد شهر من تنصيبها، هدأ الشارع إلى اليوم، ورغم الصعوبات والاضطراب، فإن المغرب منطقة مستقرة في محيط مضطرب"، متناسيا أن غالبية الناخبين الذين اختاروا "المصباح" رمزا لإنقاذهم من ظلام الحاضر الأليم، وإنارة طريق المستقبل الغامض، يعضون اليوم على أصابعهم من شدة الندم والغيظ، بعدما خاب ظنهم في حكومة اعتقدوها ذات لحظات حراك "ربيعي"، ستكون مغايرة  للحكومات المتعاقبة، في ظل دستور جديد وتجربة فتية...

 

نحن لا ندري كيف يستقيم الحال ويهدأ البال، أمام من لم يستطع حتى اللحظة التحرر من قيود نرجسيته، والانعتاق من شرنقة الوهم المعشش في دماغه؟ فمنذ اعتلائه كرسي رئاسة الحكومة، وهو يردد أن الفضل في تجاوز زوابع المحيط الإقليمي يعود بالدرجة الأولى إلى حكومته، التي أصبح المغرب تحت كنفها نموذجا يحتذى به في الاستقرار والعبور الآمن، متوعدا مناوئيه بالنزول إلى الشارع ما لم يرفعوا عصيهم عن عجلات "عربته"، المتأهبة للانطلاق نحو التغيير، فالرجل ما فتئ يتباهى بكون حكومته منبثقة عن صناديق الاقتراع، وأنه جاء وفق رغبة شعبية، حاملا معه ثقة آلاف المواطنين، ومدججا بقوة الإرادة في الإصلاح، بيد أن الأحلام سرعان ما تبخرت في الهواء، وتحطمت خلفها الآمال على صخور الواقع. فبأي هدوء يتبجح وقبلة قاصرين على موقع اجتماعي زلزلت الأرض من تحت الأقدام، فيما الشارع لا يخلو يوما من الاحتجاجات، والاعتصامات والإضرابات القطاعية؟ عن أي استقرار يتحدث، وحكومته لسوء تدبيرها الملفات، لا تكاد تخرج من مأزق إلا لتدخل في آخر أكثر تعقيدا من سابقه؟ ألا يؤرق مضجعه رجع صدى قراراته اللاشعبية وما أحدثته من فوران؟ كيف له التغاضي عن تداعيات الزيادة في المحروقات، وعن الانتظارية الرهيبة التي زج بالشعب في غياهبها منذ تصدع حكومته، إثر خلافه التاريخي مع السيد: حميد شباط؟ ألا يخجل مما فوته على البلاد من زمن ثمين في الشد والجذب، في السجالات والملاسنات وفي مفاوضات ترميم خاسرة، أفضت إلى فضيحة كبرى تجلت في ميلاد نسخة ثانية من حكومته، أشد بشاعة مما كنا نتوقع ؟ ! نسخة مزيدة وغير منقحة، أعادتنا إلى ما قبل الربيع العربي، لتفرغ دستور: 2011 من حمولته وتجعل منه مجرد أكذوبة حارقة ...

وفي خضم ما يعرفه الوضع الاجتماعي من قلق واحتقان متزايدين، نتيجة توالي ارتفاع أسعار المواد والخدمات الأساسية، يأبى سيادة الرئيس إلا أن يستمر في "هلوساته"، معتبرا أن ما يلجأ إليه من تدابير مهما كانت حدة وقعها على الضعفاء، فهي تنم عن حسه "الوطني" ورغبته الجامحة في إنقاذ البلاد من الغرق، متغافلا أنه لا يعمل سوى على مراكمة المزيد من الخيبات. وهكذا نجد مشروع القانون المالي لسنة: 2014، الثاني من نوعه في عهده، يعتمد للأسف نفس السياسة العقيمة، المفتقدة إلى مقومات الخلق والابتكار، وغير المستجيبة لمطامح شرائح الشعب العريضة، إذ جاء شبيها لسالفه في الارتباك والتخبط. وتبرز بشكل قاطع، السنتان المنصرمتان من ولايته، أنه ما زال يفتقر إلى رصانة حكيمة، تحليل منطقي وتخطيط علمي، وإلا لما انبنى مشروعه مرة أخرى على فرضيات، قد تصيب كما قد تخطئ، ويتعذر معها التنبؤ بمستقبل البلاد، في ضوء مؤشرات اجتماعية تنذر بحدوث الكارثة أمام: ضرب القدرة الشرائية للمواطن، انتشار الفقر والهشاشة، تزايد أعداد العاطلين...؟ فبعد فشله في إيجاد الطريق نحو آليات جبائية من شأنها تحقيق عدالة اجتماعية، وتضمن توزيعا عادلا للثروات، تفتقت عبقريته عن حل سحري تمثل في اللوذ بشد الحزام، من خلال تجميد الترقيات والتعويضات، وإلغاء التشغيل في المناصب الشاغرة... فضلا عن إقرار زيادات جديدة بطرق ملتوية ومغلفة، خاصة منها الضريبة على القيمة المضافة، ووجد أن أنسب السبل لخلق التوازنات المالية المفقودة، هو سبيل جيوب البؤساء، فحسب قناعاته الراسخة التي لا ينازعه فيها أحد، أن الإصلاح لا يتم من خلال الزيادات في المعاشات والأجور، ولن يأتي إطلاقا عبر فرض ضرائب على أصحاب الثروات أو المستفيدين من الامتيازات واقتصاد الريع... لسبب جد واضح، هو أن طبقة الأثرياء أقل عددا من فئات المعوزين والأسر المتوسطة، وبمعادلة رياضية بسيطة اهتدى الرجل بحدسه ونبوغ مستشاريه، إلى أن رفع منسوب التضريب على مواد غذائية تعد الأوسع استهلاكا بين المقهورين، وتشكل قطب الرحى في حياتهم اليومية، هو المخرج الملائم من ورطته، ولأجل ذلك شملت "حملة التضريب": الزيت، علب السردين، السكر المصفى، الملح، الزبيب، الأرز ومارغرين...

 

 ترى كيف لمن يحث على التزام الصراحة و"المعقول" في الخطاب، أن يلجأ إلى تضليل الناس بأشياء غير متوفرة، كزعمه إسهام الحكومة في بسط "الاستقرار"، وهو الذي جمد الحوار، وقفز على بنود اتفاق 26 أبريل 2011، سيما ما يهم الاتفاقية الدولية رقم: 87 بخصوص الحريات النقابية، وأمر بالاقتطاع من رواتب الموظفين كلما انخرطوا في إضراب عن العمل دفاعا عن حقوقهم المشروعة؟ أي أمن واطمئنان في ظل استمرار تدني مراتبنا بالنسبة لمؤشري التنمية البشرية والوضع الاعتباري للطبقة الوسطى، ووالي بنك المغرب السيد: عبد اللطيف الجواهري، يضع بين يدي الملك تقريرا عن الوضع الاقتصادي المتأزم وتداعيات التوتر السياسي على الاقتصاد والاستقرار الاجتماعي، ونسبة النمو لا تتجاوز: 2 ,7  % ؟ ناهيكم عما تضمنته تقارير أخرى من بينها تقرير المجلس الأعلى للحسابات، وتقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي من اختلالات مالية وحكامة سيئة، نكاد نجزم أن رئيس الحكومة لم يجشم نفسه عناء تصفح حتى عناوينها البارزة ! كيف للاستقرار أن يتم ومنظومتنا التربوية في تراجع مطرد، الأوضاع الصحية في ترد مستمر، إصلاح العدالة يراوح مكانه، المحسوبية والرشوة تعبثان بالمصالح العامة، السياحة الجنسية تنهش لحوم أطفالنا الطرية، أعداد العاطلين تتضاعف أمام تقلص فرص الشغل، والأجهزة الأمنية تمارس علينا عنفها المفرط؟. كفى مغالطات واستهتار، فصدورنا أوشكت على الانفجار...

 

كنا نخال الرجل مهووسا بنماء الوطن، مفتونا بحب الشعب، وأنه سيكرس وقته  رفقة  دهاقنة حزبه، في استحداث أساليب قمينة بجلب موارد مالية إضافية، وكفيلة برفع الضغط عن الكادحين والمسحوقين، بلا أدنى حاجة إلى كرامات "الأولياء" من التكنوقراط، كأن يعيد النظر في رواتب الوزراء وكبار الموظفين السامين، في أجور النواب والمستشارين، وتوقيف استفادتهم وسابقيهم من معاشات  تعتبر ريعا سياسيا يستنزف مالية الخزينة العامة... وما إلى ذلك من حلول وابتكارات، للحد من الفوارق الاجتماعية وضمان العيش الكريم للمواطنين، فإذا بنا نكتشف بغتة، أنه مسكون فقط ب"عفريت" وردي اسمه: حميد شباط، وأن ما بدا له "استقرار" اجتماعي هو قراءة خاطئة لكلمة "استفزاز" ليس إلا. هل يكون قد رمى بكل سهام جعبته في الفراغ دون إصابة الهدف؟ فلننظر إن كان بمقدور حكومته في حلتها "القشيبة"، الاستجابة لتطلعات الجماهير الشعبية وتأمين الاستقرار الفعلي...