يحتاج المواطن الجزائري، المقيم بمدينة تلمسان، ليلتقي قريبه أو صديقه المغربي بمدينة وجدة، التي لا تبعد عنه أكثر من 20 كلم، إلى قطع مئات الكيلومترات، إذ عليه الذهاب إلى الجزائر العاصمة ومنها إلى الدار البيضاء ثم إلى وجدة.


 

هي حكاية حدود كُـتِـب عليها أن تبقى مُـغلقة، إذ لم تُـفتَـح طوال الخمسة عقود المنقضية سوى 12 عاما، ليُـعاني مواطنون، بينهم علاقات قُـربى ونَـسب، من قهْـر السياسي المتحكِّـم بالرباط والجزائر، وعدم قُـدرة الحاكمين، هنا وهناك، على تدبير خِـلافاتهم وتوتّـراتهم، وحتى سوء العلاقات بينهم، دون المسّ بحق هذا المواطن في صلة الرّحم.
 
ومنذ بداية ستينيات القرن الماضي تحولت الحدود البرية بين الجزائر والمغرب، إلى عنوان للعلاقات بين البلدين، إغلاقها سهْـل ولا يحتاج لأكثر من قرار يُتخذ في حالة غضَـب أو كرد فعل على قرار اعتقَـد صنّـاع القرار أنه مُـؤذٍ له ولبلاده. أما فتح هذه الحدود، فيحتاج لتحسين العلاقات بين العاصمتين تتلُـوها مفاوضات لوضع ترتيبات تُـناسب الطرفيْـن.
 
إغلاق الحدود البرية صيف 1994، جاء بقرار جزائري بعد تحميل الرباط السلطات الجزائرية مسؤولية هجمات مسلحة، استهدفت سياحا أجانب بفندق بمدينة مراكش، وهو الهجوم الذي جاء في وقتٍ كانت العلاقات بين البلدين تنتقِـل من الحميمية والتعاون بعد عودة العلاقات الدبلوماسية عام 1988 وفتْـح الحدود البرية، التي كانت مُـغلقة منذ عام 1975 إلى فتور ثم عتَـب وجفاء جزائري بسبب الموقف المغربي من المواجهات المسلحة بين الدولة الجزائرية والجماعات المسلحة بعد توقّـف المسار الانتخابي الجزائري في يناير 1992 والغمز من زاوية الحدود بأنها باتت المَـنفَـذ لتمويل وتسليح الجماعات المسلحة، بالإضافة إلى كونها بوابة لتهريب المخدرات.


 

قضايا وملفات بين قوسين

في هذه الأيام، بدأت العلاقات تتحسّـن، ومع أنه لم تُـسَـوّ بعدُ كل القضايا والملفّات، التي أدت في الماضي أو قد تؤدّي في المستقبل إلى توتّـرها، لكن توافُـقا جرى بين الرباط والجزائر منذ العام الماضي، على وضع هذه الملفات على الطاولة، دون فتحها أو حسب التعبير المُـتعارَف عليه، جزائريا ومغربيا، وضعها بين قوسيْـن (.......) والذهاب نحو تطبيع تدريجي من خلال التعاون في الميادين القطاعية وترسيخ هذا التعاون على أسُـس ثابِـتة تصمُـد أمام أية رياح توتُّـر جديد. وعلى ضوء هذا التطبيع، يذهب البلدان نحو الملفات العالقة لفتحها ملفا تِـلو الآخر.
 
وزير الاتصال، الناطق الرسمي باسم الحكومة المغربية، قال يوم الخميس 2 فبراير الجاري: "إن هناك تقاربا حقيقيا في العلاقات بين المغرب والجزائر، ينطلق من الاشتغال على القضايا المُـشتركة غيْـر الخِـلافية بين البلدين".
 
وأوضح مصطفى الخلفي أنه سيتِـم تعميق وتطوير هذه القضايا، في إطار اللجنة العليا المشتركة بين البلدين، التي تم الإتفاق على انعقادها أثناء الزيارة التي قام بها وزير الخارجية المغربي الدكتور سعد الدين العثماني الأسبوع الماضي للجزائر، خلال السنة الجارية، كما قدَّم خلال اجتماع حكومي تقريرا بشأن هذه الزيارة، التي "ساهمت في تحريك مسلسل التقارب بين البلدين، مع إعطاء الأولوية للقضايا المشتركة". أما القضايا الخلافية، "فإننا نتطلع لأن تتِـم مُـعالجتها كيفما كان نوعها، في جو أخوي مَـبني على ما تحقق في القضايا المشتركة"، حسب تعبير المسؤول المغربي.


 

تطبيع تدريجي

زيارة سعد الدين العثماني للجزائر أنعشت الآمال بتسريع عملية التطبيع، من خلال التعاون القطاعي والبدء بدراسة الملفات العالقة، بل والمؤرقة، لأن إبقائها على الطاولة دون فتحها، والوصول إلى تفاهمات حولها أو على الأقل تفاهمات حول تدبير الخلاف بشأنها، يعني إبقاءها ألغاما قابلة للانفجار والتفجير وورقة بيَـد مَـن لا ينظر، هنا أو هناك، بعين الرِّضى لِـما يمكن أن تصل إليه عملية التطبيع.
 
في الواقع، بدأ مسلسل التطبيع التدريجي القطاعي في العلاقات المغربية الجزائرية عام 2010، من خلال اجتماعات وتبادُل زيارات لوزراء ومسؤولي البلدين في قطاعات الفلاحة والطاقة والماء والتعليم والشباب والرياضة، وذلك في منهجية تعتمِـد الإنطلاق من القاعدة وترسيخ أسسها وتوسيعها "لتشمل في المرحلة المقبلة جميع القطاعات، بدون استثناء، وسنبدأ قريبا بقِـطاع الإعلام"، حسب وزير الخارجية المغربي، الذي اعتبر زيارته إلى الجزائر "صفحة ومرحلة جديدتيْـن" في مسار العلاقات الجزائرية - المغربية "لأننا مُـؤمنون بأن مستقبل المغرب في علاقات متميِّـزة وأخوّة كاملة مع الجزائر، ومستقبل الجزائر في علاقات متميزة وأخوّة كاملة مع المغرب".
 
هذا المسار المتدرج مكّن الطرفين من التوافق على رؤية شاملة ومتكامِـلة للعلاقات بينهما، وهي مقاربة ورُؤية، تبدو مختلفة بل على عكْـس المقاربات التي كانت تُعتمد إبان ظهور انفراجات محدودة بينهما خلال السنوات الـ 18 الماضية.


 

تعاون ثنائي قطاعي

نُـمو التعاون الثُّـنائي القطاعي، الذي سيشمل الأمن أيضا، سيذهب بالبلديْـن نحو تسوِية ملفّات لا زالت عالِـقة منذ استقلال الجزائر، ومنها ملف الحدود وترسيمها ووضْـع العلامات الحدودية التي لم تُـنجَـز، رغم المصادقة الرسمية الجزائرية على اتفاقية إيفران – تلمسان عام 1972 ومصادقة المغرب على اتفاقية عام 1992، وهناك ملف مُـمتلكات المغاربة في الجزائر وممتلكات الجزائريين في المغرب، وهي قضايا لا تكون تسويتها والإتفاق حولها، في ظل علاقات وأجواء إيجابية، أمرا ممكنا فقط، بل سهلا أيضا.
 
وتيرة التعاون القطاعي تصاعَـدت مع تفتح ورود الربيع العربي، دون أن يكون الرَّبط بينهما شرْطا، بقدر ما كان الشرط هو مجموعة الإلحاحات، إذا لم نقُـل الضغوطات الخارجية، وتحديدا الأوروبية، الحاثة على مزيد من الإنفتاح بين البلدين، لِـما يمكن أن يلعبه هذا الإنفتاح، حسب تقدير المتدخِّـلين، من دوْر في ضَـمان عدم الإنفِـجار في بلديْـن يُـعتبر استقرارهما ضرورة لأمان القارّة الأوروبية وضمانة لعدم تدفّـق آلاف المهاجرين غير الشرعيين نحو شواطِـئها الجنوبية، وما تحمله هذه الأعداد من تبِـعات اقتصادية واجتماعية، وأساسا أمنية.
 
في سياق متصل، يرى عبد العزيز رحابي، الناطق الأسبق باسم الحكومة الجزائرية أنه توجد ثلاثة عوامل رئيسية على الأقل لدفع الجزائر والمغرب نحو التعاون الإيجابي، وهي بالنسبة له: التغييرات في المنطقة، حيث لاحظت الجزائر أن هناك شِـبه اختلال في التوازن الجِـهوي بعد سقوط نظاميْ تونس وليبيا، وفي ظل الحدود المُـغلقة مع المغرب، هناك خطر حدودي مع ليبيا، وهو ما يجعل الجزائر، من الناحية الجيو - استراتيجية، في وضع لا تُـحسَـد عليه ولم تعِـشه منذ الإستقلال.
 
وتنقل يومية "الخبر" الجزائرية عن رحابي قوله، أن تغيّر الحكومة في المغرب ووصول الإسلاميين إليها وزيارة العثماني للجزائر، جاءت بطلب منهم، مما قد يفتح صفحة جديدة في العلاقات، بالإضافة إلى الضغوطات المُـتواصلة من فرنسا وأمريكا على الجزائر في كل اللقاءات، للتقارب والتطبيع مع المغرب وأن حجم هذا الضغط يُـعطي انطباعا بأنهم غير محايِـدين.


 

أجواء إيجابية.. وتلميحات مُنعشة

من الناحية العمَـلية، لم تضِـف زيارة رئيس الدبلوماسية المغربية للجزائر شيئا جديدا للعلاقات بين البلدين، لكن الرّموز عادة ما تلعب دورا مهما في السياسة والعلاقات الدولية من شأنها أن تسهم في تحفيز أطراف هذه العلاقة لتسريع الخُـطى، حيث استُـقبل الدكتور العثماني، وهو أول وزير خارجية مغربي يزور الجزائر رسميا منذ عام 2003، وقبل وصوله إلى الجزائر العاصمة وبترحيبٍ رسمي، قوبِـلت فورا وبإيجابية، إشارته بتخصيصها بأول زياراته الخارجية الرسمية وأيضا ما أعلنه رئيس الحكومة المغربية عبد الإله بنكيران في تقديم برنامجه الحكومي عن "حِـرصه على علاقات حميمية وتعاون" مع الجزائر. وبالإضافة للأجواء الإيجابية التي أحاطت بزيارة العثماني، فإن الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة خصَّـه باستقبال دام أكثر من 90 دقيقة.
 
ولعل أهمّ ما تمخضت عنه زيارة وزير الخارجية الجديد - بالرغم من عدم الإقتراب ممّا هو محَـلّ خلاف - هو تأكيد اللغة الإيجابية في تصريحات مسؤولي البلديْـن عن علاقاتهما، التي بدأت تظهر في الأفق. وبدلا من التصريحات الجافة أو الخشبية، بدأت تظهر تلميحات تنعش الآمال، مثلما صدر عن وزير الخارجية الجزائري مراد مدلسي، الذي قال بأن الحدود بين البلدين "لن تُـغلق للأبد".


 

"قرار فتح الحدود قرار سياسي"

على صعيد آخر، أشار دحُّـو ولد قابلية، وزير الداخلية الجزائري إلى أن فتح حدود بلاده مع المغرب مُـحتمل جدا، في ظل عودة الدِّفء للعلاقات الثنائية بين البلدين. ونقِـل عن ولد قابلية قوله: "أتوقع فتح الحدود مع المغرب على اعتبار أن هناك تقاربا في العلاقات الثنائية بين البلدين، تُـوِّجت بزيارة وزير الخارجية المغربي سعد الدين العثماني".
 
وأضاف الوزير الجزائري أن "قرار فتح الحدود قرار سياسي"، وأن المسألة لا تخُصّ وزارة الداخلية فقط، والتي يقتصر عملها على تطبيق القرارات في مثل هذه المسائل، وهي تصريحات ترافَـقت مع أنباء عن بدء الحكومة الجزائرية التحضير التِّقني من أجل إعادة فتح الحدود البرية مع المغرب، وأخرى أفادت بأن المديرية العامة للشرطة الجزائرية تحضِّـر حاليا لفتح الحدود، حيث من المتوقَّـع أن يتم ذلك في شهر مايو المقبل، موعد إجراء الإنتخابات التشريعية المقرّرة في الجزائر .


 

قضية الصحراء.. قضية دولية

إلى جانب مسألة الحدود، هناك نزاع الصحراء الغربية، العنوان الرئيسي لتوتّـر العلاقات المغربية – الجزائرية. فالمغرب الذي يعتقِـد أن المنطقة المتنازَع عليها مع جبهة البوليساريو، جزء من ترابه الوطني استردّه من إسبانيا على غرار منطقتيْ طرفاية وسيدي إيفني، وعلى غرار مدينتيْ سبتة ومليلية، اللتان لا زالتا تحت الاحتلال الإسباني، فيما تعتقد الجزائر أنها تدعم جبهة البوليساريو، لأن سكان المنطقة المتنازَع عليها، الذين تُـمثلهم الجبهة، لم يمارسوا حقّهم في تقرير المصير، الذي أقرته لهم الأمم المتحدة.
 
النِّـزاع الآن، سياسيا ودبلوماسيا، بين يدَي الأمم المتحدة، المسؤولة عن حلِّ النزاع منذ 1991 وترعى مفاوضات رسمية وغيْر رسمية منذ عام 2007 بحضور الجزائر وموريتانيا، دون إحداث اختراق حقيقي في موقفَـيْ الأطراف المتنازِعة، ومن المتوقَّـع أن تُـعقد جولة تاسعة خلال الأسبوع القادم في ضواحي نيويورك.
 
إبراهيم غالي، ممثل جبهة البوليساريو في الجزائر، يؤكد أن التقارب الجزائري - المغربي لن يُـؤثر في مسار قضية الصحراء، لأنها قضية دولية، لا يمكن حلّها بصفة ثنائية بين البلدين ولا في إطار المغرب العربي، بل عبْـر الأمم المتحدة". وقال غالي "لنا ثقة كاملة ومُـطلقة في ثبات الموقف الجزائري. والجزائر على بيِّـنة بخلفيات الموقف المغربي. فالجزائر موقفها مبدَئي ولم ولن يتأثر بالضغوط".
 
وفي كل الأحوال، بات واضحا أن هذا النزاع، الذي حال دون قيام علاقات طبيعية بين الجزائر والمغرب، لم يعُـد عثرة أمام تطبيع العلاقات بينهما، وأنه (أي النزاع) لعب الدور الأساسي في تجميد مؤسسات اتحاد المغرب العربي، الذي يجمع منذ 1989، إلى جانب البلدين، كلا من ليبيا وتونس وموريتانيا، سيوضع أيضا "بين قوسين" في العمل المغاربي المُـشترك ويخرج من جدوَل اللقاءات المغاربية القادمة، التي سيكون أولها اجتماع وزراء خارجية الدول الخمس بالرباط يوم 17 فبراير الجاري، لإحياء الذكرى الـثالثة والعشرين لتأسيسه، ووضع آلية إنعاش مؤسساته والإعداد للقمة المغاربية، التي لم تُـعقد منذ 1994.
 
ومن المؤكد أن هذه الآلية ستكون حاضرة على جدول أعمال مباحثات الرئيس التونسي المنصف المرزوقي في جولته المغاربية، التي ستشمل ابتداء من يوم 8 فبراير كلا من المغرب وموريتانيا والجزائر.


 

منطق التاريخ.. والمصالح!

في سياق متصل، يقول تاج الدِّين الحسيني، الأستاذ الجامعي المغربي المتخصِّص في العلاقات الدولية، إن العلاقات المغربية - الجزائرية "محكومٌ عليها بأن تسير نحو اتِّجاه التطبيع، لأن مدار التاريخ يَـفرِض الرُّجوع إلى الصواب من التَّمادي في الخطأ".
 
ويعتقد الحسيني أن "هناك أشياء عدّة تفرض هذا الرجوع إلى الصّواب، من أهمها تداعِـيات الربيع العربي في المنطقة المغاربية. فبعد انهيار النظام البوليسي في تونس وكذلك النظام الفوضوي أو ما يُـسمّى بالفوضى المُـهيْـكلة في ليبيا ودخول البلاد في مرحلة الديمقراطية، أعطيا للتعايش داخل المغرب العربي نوعا من الطعم الجديد، وهو طعْـم يتميَّـز بتمكن المواطنين من المشاركة في اتخاذ القرار".
 
وقال الباحث المغربي "المغرب والجزائر في اتحاد المغرب العربي، يُـشبِـهان كلا من فرنسا وألمانيا داخل الإتحاد الأوروبي، كانا هما أساس انطلاق الإتحاد، من منظمة متواضعة للفحم والفولاذ إلى السوق الأوروبية المُـشتركة إلى الاتحاد الأوروبي"، لذلك محكوم على البلدين أن يمارسا التطبيع وأن يتعاونا بينهما، من أجل تمكين المغرب العربي من الظهور من جديد كقوة إقليمية، وإن أول نقطة في هذا المسار، هي فتح الحدود المغلقة  والشروع في تأسيس بِـنيات المغرب العربي المجمّـدة، وإعطائها نوعا من الروح لتمكنها من الوجود على قيد الحياة."
 
وفي السياسة كما الحياة، كثيرا ما تكون الآمال مُـنطلقا لتحقيق الأهداف الكبرى، ومن الواضح أن الآمال بعلاقات جزائرية - مغربية إيجابية ومتطوّرة، تشكل الحافز لمنطقة المغرب العربي للذهاب نحو عمل مشترك، يُـجنّب دول الإقليم ويْـلات تحدِق بها جميعا وتعوّض عقودا من التعاون الإيجابي، أهدرت في صراعات كان يمكن تفاديها لو أدرك صنّاع القرار في الإبان الحجم الهائل للفرص التي ضاعت على شعوبهم وبلدانهم.


 

محمود معروف