تغير المشهد الحزبي بأكثر من 180 درجة. قبل ما يزيد على عقد ونصف العقد راهن المغرب على إنتاج تجربة سياسية، تكون نقيضاً لما كان يتفاعل سياسياً ومجتمعياً إلى جواره، وتحديداً في الجزائر. ولم يكن مجيء الاشتراكيين بزعامة رئيس الوزراء عبد الرحمن اليوسفي إلى الحكم خلاصة وفاق التناوب بين القصر والمعارضة فقط. بل كان بمعنى آخر تأسره حسابات إستراتيجية، لم تكن تستبعد وقتذاك تغلغل التيارات الإسلامية في الجزائر.
فالبلدان منذ استقلالهما تعايشا في إطار تناقض شمل نظم الحكم والخيارات الاقتصادية والمواقف السياسية إلى أن فرضت التحولات الدولية نفسها بقوة، وأصبح الانتساب إلى نادي الليبرالية واقتصاد السوق والعولمة ضرورياً، بعيداً عن أشكال التصنيفات الإيديولوجية التي آلت إلى الاندثار أو التجديد. وحتّم ذلك التعايش رصد كافة تفاعلات الأوضاع في البلدين الجارين سلباً وإيجاباً على حد سواء. وكما أن المغرب كان يرمي بصره إلى ناحية الشرق لمتابعة أطوار الصراع على السلطة في الجزائر، فإن الأخيرة ظلت تعتمد التيرموميتر المغربي عنواناً في الأفق الذي يتجاوز مداه الثنائي نحو مجمل العلاقات الإقليمية إلى درجة تقاس فيها المواقف بالولاء والخصومات. لم يحدث شيء من تلك التوقعات على الصعيد الجزائري، ولم يغلق الملف نهائياً، فالتطورات الداخلية والإقليمية لا تستثني هذا المسار. غير أن الاستحقاقات الاشتراعية في المغرب هذه المرة قلبت المعادلة.
وما كان منتظراً تحقيقه في الجزائر انتقل بسلاسة إلى المغرب الذي كان إلى وقت ليس بعيداً يعاند في أنه أبعد عن التأثر بعدوى الميول الإسلامية. الجديد أن التعاطي مغربياً مع هذا الاكتساح لم ينزع إلى إلغاء العملية الديموقراطية في أساسها. بل انصرف إلى قبولها كأمر واقع، جلبته تجارب نقيضة، لم تفلح في استيعاب هموم المواطنين وتوقعاتهم ذات الملامح الاقتصادية والاجتماعية. وبالتالي فالفرضيات التي كانت تقيس الخيارات بالمنظور الإقليمي في التوازن أذعنت إلى واقع السياسة التي تكمن في الإصغاء إلى نبض الداخل، أكان غاضباً أو منفعلاً أو صامتاً، أو حتى محيراً. كما أن مجيء الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة إلى الحكم تزامن مع تولي العاهل المغربي الملك محمد السادس مقاليد الحكم في المغرب، فإن روزنامة الاستحقاقات الاشتراعية تكاد بدورها تتقاطع في فترات متقاربة. ولولا أن الرباط أجرت انتخابات مبكرة لكان عام 2012 محطة واحدة في توقيت حسم صناديق الاقتراع. ما يهم أن صورة المشهد السياسي في المغرب في ضوء فوز الإسلاميين لن تكتمل إقليمياً إلا في ضوء خلاصات انتخابات الجزائر المقررة بعد بضعة أشهر. ومع أنها مثل صنوتها في المغرب شأن داخلي صرف، فإنه لا يمكن استبعاد أن انفراج علاقات البلدين الجارين مطلب يرتقي إلى انشغالات الرأي العام.
وأي تغيير في المشهد السياسي سيكون ناقصاً ما لم يضع في الاعتبار أن استمرار الأزمة بين الجارين في غياب بناء الثقة يشكل عائقاً حقيقياً على طريق التفاهم والتكامل. ولا أقل من أن تأتي بداية حل العقدة التي طال أمدها بين البلدين من فاعليات لم تكن طرفاً في الخلافات القائمة، ولا يعني انتظار الاشتراعيات الجزائرية القادمة تقليلاً من المساعي التي بذلت في هذا النطاق. ولكن الخطوة الأكثر جرأة لم تحدث بعد. والمعيار الحقيقي لتقويم مسار التحولات الجارية ديموقراطياً لا يتوقف عند البعد الداخلي الذي يخص كل بلد على حدة. بل يتجاوزه نحو خصائص الجوار الإقليمي الذي يتماهى ومطالب الشارع. من المفارقات أن يكون التقليد الديموقراطي مطلوباً لترتيب الأوضاع الداخلية في أي بلد، ولا يسري مفعوله في هندسة متطلبات حسن الجوار. فالديموقراطية ليست سلعة استهلاك داخلي، ولكن إشعاعها يتعقب الفضاءات المجاورة. ولأن من السابق لأوانه توقع اختراقات كبيرة بعد مجيء الإسلاميين إلى الحكم في المغرب، ما لم يرتبط الموقف بتجليات ميدانية، فالأمر ينسحب بصورة أخرى على مفاجآت صناديق الاقتراع الجزائرية، وإن كان واضحاً أن الأخيرة لن تشكل استثناء في تقبل أحكام إرادة الناخبين، في ضوء الفورة الجديدة للتيارات الإسلامية ذات القابلية للاعتدال والانفتاح.
غير أن ما تثيره الأسئلة المحيرة إزاء راهن العلاقات المغربية - الجزائرية يتطلب شجاعة حقيقية في الاتجاه الصحيح نحو طي صفحات الخلافات المستعصية. والأقرب أن الإرادة السياسية التي كانت الغائب الأول بامتياز يمكن أن تعززها إرادة صناديق الاقتراع. ومهما كانت نتائجها فالثابت أن لا مشاكل ولا خلافات بين الشعبين المغربي والجزائري.