لا أحد يشك اليوم أن " أمن واستقرار وازدهار اسبانيا و المغرب رهين بعلاقات متينة وقوية وطبيعية بينهما " على حد قول السيد ماريانو راخوي عقب استقباله أخيرا من لدن الملك محمد السادس، ولا أحد يشك في أن العلاقة المغربية الاسبانية علاقة خاصة، و تحتاج إلى تدابير استثنائية فيها كثير من الذكاء الجماعي ، و لا أحد يشك أخيرا على أن التحولات التي تعرفها المنطقة المتوسطية تفرض مقاربة جديدة لهذه العلاقات حماية لمصالح البلدين معا . إلا أنه رغم هذه اليقينيات ،فكثيرون من الضفتين يتجاهلون أن مفاتيح حل المشاكل القائمة بين اسبانيا و المغرب ، - و التي عمرت طويلا حتي خسر من نتائجها الجميع - هي بيد من يستطيع أنسنة هذه العلاقة و إبداع صيغ جديدة لمأسسة الحوار بين البلدين ،اللذين كتب لهما أن يتحملا عبء كونهما نقطة التقاء عالمين مختلفين على جميع الأصعدة. و مرد هذا التجاهل – و ليس الجهل - في اعتقادي راجع بالإضافة إلى ثقل التراكم السلبي الذي طبع العلاقة المغربية الاسبانية خلال العقود الأخيرة ، إلى ثقل التاريخ ، و إلى قوة لوبيات ليس من مصلحتها قيام علاقة مغربية " متينة وقوية وطبيعية" ، و إلى التقدير المتباين - خلال المراحل الأخيرة من هذه العلاقة - لدي الطرفين في مدى الإيمان المشترك بالديمقراطية وحقوق الإنسان، كقيم و ممارسة .

لا يروم هذا المقال التشبث بالتحاليل التقليدية لحال هذه العلاقة و إعادة صياغتها بلغة خشب من نوع آخر ، بل يروم إلى تحليل فيه جرعة زائدة من الجرأة التي تنقص عادة التحاليل التي تنصب على العلاقة المغربية الاسبانية . لذا لا نقصد بالمأسسة قيام خط ساخن بين الرباط و مدريد ، و لا إعادة نفخ الروح في المؤسسات التي أنشئت من أجل الحوار بين البلدين ، و التي حملت أسماء مفكرين كبارا ،مازالوا يتقلبون في قبورهم مع كل أزمة حتى سئموا من ذلك، أو تأسيس منتديات أخرى مشابهة كبديل لها . و لا الرهان على وجوه جديدة من هواة دبلوماسية السياحة و التسوق، و لا على وصفات جاهزة لمن لا يعرف لا لغة و لا تاريخ و لا الثقافة العميقة للبلدين . إنما نقصد بالمأسسة ، أولا ، جعل هذه العلاقة في صلب انشغالات حكومتي البلدين وفي جوهر برامج أحزاب الدولتين، بيمينها و يسارها ، دون أن تسمح لنفسها باستغلال هفوات هذه العلاقة أيام الأزمات لتغطي عن عجزها في إبداع الحلول. و – ثانيا - قيام حوار دائم بين مختلف المتدخلين في هذه العلاقة من رجال الأعمال و الاقتصاد و السياسيين و الحقوقيين و الأكاديميين و الفاعلين المدنيين الكبار ، ليس على أساس النظر في كيفية حماية المصالح المشتركة للطرفين حتي لا تتضرر بفعل الأزمات الدورية - كما كان يجري في السابق في الحوارات المشروطة التي كانت تجمع الطرفين عقب كل أزمة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية– بل على أساس – أولا - الرهان على الحوار الدائم بينهما ، كواق من الأزمات المتكررة ، و – ثانيا - البحث عن صيغ احترام القيم المشتركة بينهما. ذلك أن الذين يتحاورون باستمرار و يتقاسمون نفس القيم من المستحيل أن يدخلوا في صراع مجاني تمليه الحسابات السياسوية ، و لا الإضرر بمصالح بعضهم البعض .إن المأسسة تتطلب و بالضرورة أنسنة هذه العلاقة .

واذا كان الطرفان معا لم يعيرا ، أمس ، أي اهتمام لمسألة القيم في علاقتهما ، و كانا يبحثان عن حل المشاكل الطارئة بالاعتماد على مبادئ " الواقعية السياسية "في العلاقة الدولية ، فإنه اليوم ، و بالنظر إلى ما يحدث من تطورات في المتوسط برمته ، وجب حدوث تحول نوعي في النظرة إلى مستقبل العلاقة الثنائية بالاعتماد ، أولا ، على حماية القيم المشتركة ،عبر العمل المشترك من أجل الرفع من جودة الديمقراطية في البلدين و محيطهما، و عبر الإعلاء من ثقافتها و التربية على قيمها ،و الإعلاء من ثقافة حقوق الإنسان و المواطنة ،و المساهمة في استتباب الأمن البشري والإقليمي الذي بات تهديده يطرق أبواب أوربا، سواء كان مصدره منطقة الساحل أو أفغانستان ، ونعني الأمن هنا بمفهومه الحقوقي و في كل أبعاده. و الاعتماد ثانيا على مقاربة جديدة، عبر خلق فضاءات للنقاش الحر و الديمقراطي حول كل المشاكل العالقة بين الدولتين، دون طابوهات و خطوط حمراء مسبقة .

وسيكون من الإجحاف عدم الانتباه إلى و عي مسؤولي البلدين بهذا الرهان التاريخي ، إلا أن ثقل ما يمكن أن أسميه ب"سوء الفهم التاريخي" بين البلدين يحول دون انتباه الناس إلى ذلك ، ويساهم في خلق سرعتين مختلفتين في التعاطي مع راهن هذه العلاقة، ذلك أن في الوقت الذي يدعو فيه الملك محمد السادس في رسالة وجهها إلى رئيس الحكومة الاسباني الحالي ب " "مواصلة التنسيق والتعاون بين البلدين في مختلف القضايا ذات الاهتمام المشترك والمشاركة في الجهود الدولية التي تسعى إلى تعزيز الأمن والسلام في بؤر التوتر المختلفة عبر العالم ، وحل النزاعات بالوسائل السلمية مع احترام السلامة الإقليمية للدول وقيمها الوطنية الدائمة".. و في الوقت الذي يعلن البرنامج الانتخابي للحزب الشعبي الحاكم على أن "القيم الديمقراطية التي حازت على الإجماع في مرحلة الانتقال الديمقراطي وجعلت منا أمة يعجب بها يجب أن تسود في سياستنا الخارجية"، و أن " إسبانيا ستتحمل مسؤوليتها في مساعدة الديمقراطية في المتوسط تماشيا مع السياسة الأوروبية المتجددة بشأن الجوار. " في الوقت نفسه نجد من يريد أن يختزل هذه العلاقة الاستراتيجية في كيلوغرامات من السردين أو الطماطم ، أو في الجري وراء أوهام جناح من حكام الجزائر الذي لم يستطع بعد أن يفهم – رغم الربيع العربي - أن مصالح الذين يعيشون على الأرض تمر قبل الأرض نفسها ، و أن رهان العالمين اليوم هو البحث عن صيغ إسعاد الناس أينما كانوا ،لا إلى خلق كيانات ضعيفة تضاف إلى لائحة الكيانات الضعيفة التي سئمها الناس .

على سبيل الختم ، اذا كانت إعادة كتابة تاريخ العلاقة المغربية الاسبانية ضرورة ملحة من أجل التخفيف من ثقل التاريخ في هذه العلاقة و البحث عن صيغ أنسنتها من خلال معالجة مع علق بها من سلبيات . و إذا كانت " المجموعة" المغربية الاسبانية المدافعة عن علاقة مغربية اسبانية " متينة وقوية وطبيعية" – على حد تعبير السيد الراخوي - ما زالت ضعيفة، و تحتاج إلى التأسيس لحوار عميق و صريح و شفاف و واضح بينها ، و إلى الإبداع في صيغ العمل و الرهان على الذكاء الجماعي المحترم "للقيم الوطنية الدائمة "– كما ورد في رسالة جلالة الملك .فان اللحظة الراهنة من تاريخ هذه العلاقة لا تترك للطرفين معا إلا الرهان على الحوار الدائم بين الطرفين ، و بناء علاقة جديدة قائمة على أسس القيم المشتركة بينهما.

إلا أن الرهان الأخير يتطلب الإيمان العميق بما ينجز هنا و هناك من تقدم على درب دمقرطة الدولة و دمقرطة المجتمع، و إشاعة حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا .