هي محطة أشبه ما تكون بسيناريو الجزائر عام 1992، الأولى تراجع الرئيس عن كل تعهداته والتزاماته أمام الشعب، تحت ضغط التهديد بالانقلاب على المسار الانتخابي، تفاديا لإراقة مزيد من الدماء، تكون نتيجة هذا الموقف ثورة شعبية أخرى، لكن هذه المرة ضد ‘المحظورة’ نفسها، وعودة الشعب للعسكر بشكل تلقائي وآلي، وهذا المبتغى…)؛ فقرة من المقال الذي نشر على هذه الصفحة تحديدا 10/06/2012 تحت عنوان ‘هل ينجوالشعب المصري من الفخاخ؟’. لم تكن قراءة الكاتب هذه منذ عام تقريبا، لتطورات الوضع في مصر التي ستنتهي الى انقلاب عسكري بطلب من الشارع المصري، تنجيما ولا أماني، وإنما زبدة تجربة مرت بها الجزائر، بالغة الأهمية والخطر يعرض عنها مع الأسف كثير من أشقائنا بالمشرق العربي؛ وقناعة من الكاتب بأن الأمور ذاهبة الى انقلاب عسكري لا محالة.

 

مرة’أخرى يشير في مقال تحت عنوان ‘ادخلوا مصر ـ لا قدر الله جزائريين’، قبيل ثمانية أشهر، جاءت فقرته الأخيرة بكل وضوح وصراحة: ‘لكن خلاصة المشهد العام الذي تعيشه مصر اليوم، أيا كان موقفنا من التفاصيل، هو ساعة قبل اندلاع حرب أهلية، والرمي بالمنشفة للشارع لا يعني في ما يعنيه إلا شيئا واحدا: وهو عدم استخلاص المصريين العبر من تجربة الجزائر، والحال أنه ما لم يتراجعوا خطوة إلى الوراء، فلن تكون هيهات إلا نسخة مكررة مقرفة لما نحن عليه في الجزائر، ويصح القول حينها بأن تغير اللوحة في مدخل المطار: ‘ادخلوا مصر- لا قدر الله – جزائريين’ (القدس العربي 10/12/2012).

 

كثير من الإخوة اعترضوا على هذا الاستخلاص حينها، والحجة ليست أكثر من قولهم بأن الشعب المصري يختلف عن الجزائري؛ غافلين تماما عن سنن اجتماعية، لا يمكن بحال أن تتبدل حسب أمزجة البعض، ولا أن تلوي قواعدها بناء على جنسية أو عرقية أو غيرهما؛ وثبت اليوم صحة ما حذرنا منه، ووقع الانقلاب العسكري بطلب من الشارع حقا، مع ذلك يذهب الكثير لوصفه بالتصحيح لمسار الثورة، رافضين وصفه بالانقلاب، تماما كما حدث مع هزيمة 67 التي تزيّنت بوصفها مجرد نكسة. والحال أن العسكر تدخل وليس غيره، وأعلن بوضوح تنحية رئيس جمهورية منتخب، وتعطيل الدستور وتعيين رئيس جمهورية، وعمل كهذا لا يوجد له وصف في كل قواميس العلوم السياسية إلا ‘الانقلاب العسكري’، حتى إن أجمعت على نكرانه معظم الطبقة الفاعلة في مصر، فذلك لا ينفي حقيقة توصيفه، بقدر ما يشير إلى تمسكها بوهم ستندم عليه كثيرا، ويعكس واقع عجزها المخجل عن إبداع حلول لتعقيدات أسهمت بدرجة كبيرة في صناعتها، بداية من انقسام المعارضة نفسها في الانتخابات الرئاسية، التي أفرزت مرشح الإخوان ومرشح النظام، وبعد فوز الأول حملت النخب المصرية العصي لتضعها في دواليب حركته بشكل متكرر، غطى عليه عجز الرئيس وفقره الدبلوماسي، وتخبطه في القرارات وإصابة جماعته بعمى الألوان السياسي، والأعجب من كل ذلك يقين الجميع بأن مصر تقع في كوكب آخر، لا يتربص بها عدو، ولا يتدخل في تسييرها، حاضرا ومستقبلا، غير أهلها؛ هذا المنطق بتفاصيله السابقة الذكر، انتهى الى انقلاب عسكري أجهض تجربة ديمقراطية لم تستوف من عمرها حولا واحدا.

 

اليوم وبناء على سلامة الرأي وصواب الرؤية أقول لأشقائنا في مصر الحبيبة، والقلب يعتصره الألم وفي الحلق غصة: أهلا وسهلا بكم في الجزائر. أقولها ليس تمنيا، ولكن عن علم قطعي لا يرقى ليقيني بصحته شك، لقد بدأت مفاعيل الحرب الأهلية تشتغل، ولم يعد السؤال حول إمكانية حدوثها وإنما عن عدد ضحاياها وكم من الوقت ستستغرق. أعلم أن الكثير منهم سينتفض في وجهي، لكن لا يملك الرد إلا قوله ‘نحن نختلف’، وهذا القول لا يصدر عن عاقل ولا يترجم إلا عجزا ذهنيا عن إدراك الواقع؛ ذلك أنه معلوم من السياسة بالضرورة، أن العسكر لا يملك أبدا أدوات تسيير دولة والقيام على مجتمع مدني، ومؤشرات تعامل المؤسسة العسكرية المصرية تفيد بأنها تماما كغيرها وليست استثناء، خاصة في عالمنا العربي المتخلف. منها هجوم عناصرها على قناتي ‘الحرة’ و’25′، واعتقال الرئيس المخلوع من دون سند قانوني، واختطاف رموز وقيادات حركة الإخوان وإيداعهم السجن.

 

هذه التصرفات التي قام بها العسكر مباشرة بعد الانقلاب، ومن طينتها ما هو قادم وأعظم، ذاتها حدثت في الجزائر ذات عام 92، ولم ولن تفرز إلا ردة فعل تتماهى مع حدتها وعدم شرعيتها، هذا ليس تخويفا ولا تهديدا ولا حتى تعاطـــفا مع الإخوان، فالكاتب لطالما ناصبهم الخلاف، وإنما استعراض لتجربة تكاد تكون مطابقة إلا في بعض التفاصيل الدقيقة، التي لن تغير من مجـــريات المستقبل شيئا؛ بل لعل الوضع في مصر أخطر بكثير، لأن هناك شيوخا ورموزا لهذا التيار ‘الاسلاماوي’ أفتوا قبـــل الانقلاب بالجهاد ضد المعارضة ومن يريدون إسقاط الشرعية، ولهم من أتباعهم ما يكفي ويزيد عن الحاجــة، لإحداث حرب أهلـــية، كما فعلــــوا هم أنفسهم في الجزائر من قبل، ولديهم من المبررات والحجج والإمكانات والعوامل الداخلية والتشجيع الخارجي ما لا يبشر بخير أبدا.

 

أخيرا، من لا يعرف أن الطبقة الأوسع لدى التيار ‘الاسلاماوي’ تتميز بالمستوى العلمي المتدني، فهو يقينا جاهل، ومن لا يدرك أن القاسم الذي يجمعها ويرص صفوفها شعورها بالظلم والتهميش منبتا، فهو قطعا لا يعرف مع من يتعامل؛ أما من لا يدرك بأنها لا تختلف سلوكا وردة فعل عن نظيرتها في سورية وليبيا وقبلهما الجزائر، فلا شك لدي أنه يعيش في مجرة أخرى… ولن ينفع معه القول: أهلا وسهلا ب حتى يراها – لا سمح الله ولا قدر- بأم عينيه في أم الدنيا. نسأل الله العافية لكل الأمة العربية، وأحمل مشايخها وعلماءها ونخبها الفكرية والسياسية والعسكرية مسؤولية ما وصلت إليه.

 

 

اسماعيل القاسمي الحسني