بالنسبة لنائل البرغوثي (54 عاما)، فإن قضاء أكثر من ثلث قرن في معتقلات الإاحتلال الإسرائيلي، وهو رقم قياسي عالميا، لم يكن سوى مرحلة وطّـن نفسه على عبورها ومغادرتها، مُـفعما بإنسانية عالية ومحافظا على مبادئ زاد تمسُّـكا بها.

 

ويقول البرغوثي في لقاء أجرته معه swissinfo.ch في منزله بقرية كوبر، شمال مدينة رام الله بالضفة الغربية، إن عملية التوطين هذه بدأت فِـعليا قبل اعتقاله في ربيع عام 1978، بتهمة المشاركة في قتل جندي إسرائيلي.
 
في أحد أيام عام 1976، حين كان البرغوثي في التاسعة عشرة من عمره، ذهب إلى مكتبة بلدية مدينة البيرة العامة كعادته وحمل رواية "قصة مدينتين"، للكاتب تشارلز ديكينز، وعندما وصل باب بيته في كوبر، كان قد فرغ من قرائتها.
 
وعن ذلك يقول "لفتت انتباهي قصة شخصية الطبيب "ألكسندر مانيت" في الرواية، والذي أمضى 18 عاما في السجن، ورُحْـت اتخيَّـل نفسي أقضي عشرين عاما سجن، ماذا أفعل؟ ماذا سأكون؟ هل ستصبح لدي عقدة نفسية مثله؟ وقلت لنفسي، مستحيل أن أصبح كذلك، لو سُجِـنت مثل هذه الفترة".
 
وإذا كان الطبيب مانيت، أحد الشخصيات الرئيسية في رواية ديكنز، قد انتهى بعُـقدة نفسية وقرر الإنسحاب من الواقع، فإن نائل البرغوثي الذي أمضى أكثر من ثلاثة وثلاثين عاما خلْـف قضبان السجون الإسرائيلية، تشبّـت بالواقع والحياة، وزاد إصرارا على ما يريد.
 
ويقول البرغوثي، الذي أفْـرِج عنه مع مئات الأسرى الفلسطينيين، ضِـمن صفقة التبادل الأخيرة بين حركة حماس الإسلامية وإسرائيل مقابل الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، "لم أشعر أبدا أنني كنت سجينا".
 
وأضاف "منذ أول يوم في السجن، وأنا أوطـّن نفسي على إطلاق سراحي، ما الذي سيترتب على ذلك؟ ستكون هناك تغيُّـرات في الحياة، أفراد عائلتي سيموتون، ممكن أن أموت أيضا، بيتنا الذي تركته من غرفتين، سيصبح أكبر، قريتي، التي تعدّ بضع مئات، ستصبح أكبر، وكذلك رام الله وغيرها".

 

لا تفكر في الألم أبدا

في التاسعة من عمره، وفي صيف حرب عام 1967، التي سيكون له مع آثارها مشوار حياة طويل وصعب، بينما كان البرغوثي يلعب مع أقرانه عند بيدر القرية.. ضرب حجر كانوا يحملونه أصبع يده اليمني الصغير فقطع طرفه، رفض الطفل الغضّ حينها طلب أصدقائه العودة إلى البيت وعالج جرحه بالتراب، وأصر على مواصلة اللّعب.      
 
ويشرح البرغوثي أنه تربّى في منزله بقرية كوبر الفلسطينية، على أسلوب حياة ومبادئ، كانت الأساس في قدرته على تحمّل سنوات السجن الطويلة والمحافظة على إنسانيته وعدم الإستسلام إلى الضغوط، مهْـما كانت.
 
ويقول: "توفيَـت والدتي أثناء وجودي في المعتقل، كانت تقول لنا، (أنا وشقيقي عمر في المعتقل أيضا وشقيقتي حنان): لا تفكروا في الألم أبدا، لا تتأوهوا، لا تقولوها إلا بعد أن يقلها ذاك الذي يريد إجباركم على التفوه بها".
 
ويقول البرغوثي "كنت أكتشف طوال الوقت صحة وفعالية هذه المبادئ، التي تربَّـيت عليها ولا أتحول عنها، هذه طريقتنا في الصراع مع عدوِّنا، هو صراع نفسي يريد أن يهزمك يخرجك من كل إنسانيتك، إما أن تكون مجرما أو أن يجبرك على رفع الراية". ويضيف "اخترنا هذه الطريقة وسنتحملها ونتحمل كل آلامها، وسنحصل على حقوقنا، دون استجداء. وفي نفس الوقت، نحافظ على إنسانيتنا".  
 
داخل المعتقل، راح البرغوثي يطبِّـق النظرية على أرض الواقع، أقام نظاما قائما على الإطِّـلاع والمطالعة وتتبّـع أخبار البلد والعالم بكل الوسائل المُـتاحة، عن طريق القراءة، تعلم اللغات، واحتفظ بأطلس "ناشيونال جيوغرافيك" العالمي، حتى أصبح مرجعية لبقية زملائه في المعلومات العالمية والمحلية.
 
وترافق ذلك مع نظام صحي قدر الإمكان، تمثل في ممارسة الرياضة بشكل يومي ونظام غذائي، قدر الإمكان أيضا، من خلال تجنب الطعام غير الصحي والمشروبات الغازية.
 
ولم تكن عملية التوطين على السجن والتحضير ليوم الخروج، الذي طال كثيرا بعيدا عن الإحتياجات العاطفية، إذ قرر البرغوثي، وبالذات بعد وفاة والديه، أنه آن الأوان لكي يرتبط بشريكة عُـمر.
 
وجاء الاختيار على إيمان نافع، من بلدة نعلين قرب رام الله، كانت قد قضت أيضا نحو عشر سنوات سجن في معتقلات الإحتلال الإسرائيلي وأطلق سراحها عام 1997. خطبها في عام 2004 وظلّت بانتظاره، حتى تزوّجا نهاية العام المنقضي، فور إطلاق سراحه.

 

".. فلسطين جزء من بلاد الشام.."

عندما اعتقل نائل البرغوثي في أبريل عام 1978، كان يعمل ضمن إحدى خلايا حركة فتح. وفي داخل المعتقل، يقول أقرانه، إنه تحوّل إلى حركة حماس، لكن ذلك لا يبدو أنه يعنيه شيئا، فهو كما يقول، كان ولا زال يحمل مبادئ ومعتقدات، تضيق بها أفكار ومبادئ الحركتين، اللتين تقودان الفلسطينيين حاليا.
 
ويقدم البرغوثي نفسه على أنه إسلامي شمولي، يقبل الآخر ويرفض الفئوية، ويعتبر فلسطين جزءا من بلاد الشام، وأن إسرائيل ككيان سياسي، يجب أن تزول، ويمكن القبول باليهود كمواطنين في دولة واحدة، في منطقة بلاد الشام.
 
ويقول "كنت قد نقشت عبارة (فلسطين جزء من بلاد الشام)، على مقعدي الخشبي في المدرسة، وما زلت أؤمن بذلك حتى الآن وسأبقى. صحيح أنني دخلت حركة فتح ودخلت السجن وأنا كذلك، ولكن لأنني مُـؤمـن بثقافة المقاومة ولم أختر الرفاهية".
 
ويضيف "لما صارت هناك حركة تغيير داخل حركة فتح، حركة فتح الإنتفاضة (أبو موسى)، لم أكن أعرفه ولم يكن يعرفني، لم أغادر (الوطن) طوال عمري، لكن الإنتقادات التي أطلقها، كنا نحن ننتقدها داخل السجن، على العمل العسكري أو السياسي في نقاشاتنا. أصبحنا "فتح انتفاضة"، ونحن في السجن، دون أن تكون لنا علاقة معهم في الخارج، مجرد حركة إصلاح داخل فتح، وبقينا في هذه الحالة واضطُهدنا اضطهادا، يعلم الله ما هو".
 
وقال "في عام 1982، وبعد حرب غزو لبنان وفي خضم النقاشات، قلت إن الحل لفلسطين لن يكون إلا حلا إسلاميا موسعا، والإسلامي المغيب، سيأتي في إطارٍ عربي وعالمي، وقصة القرار المستقل هذه مجرّد فقّـاعة. وإذا كنت سأطلب من المغربي أو الباكساتني أن يأتي ويضحِّي معي، إذن سيكون له الحق في القرار".
 
وأضاف "أنا اعتبر فلسطين جزء من بلاد الشام، الدولة الفلسطينية في فكري وقناعاتي، لا أؤمن بها، هذا الحدّ الأدنى. وعندما كنت في الخلية التي قَـتلت الجندي الإسرائيلي، كنت مقتنعا بتلك المقولة، كنت قد كتبتها على مقاعد المدرسة، أن فلسطين جزء من بلاد الشام، وهذا موقعها، هذه قناعة راسخة لدي من الأساس، وبعد 33 عاما في المعتقل، تعزّزت قناعتي هذه".
 
بالنسبة للبرغوثي، فإن حركة فتح، التي انتمى إليها صغيرا، "ليس لديها اليوم فكر سياسي. فتح اليوم غابت عن الفِكر السياسي أو انخطفت، باتت مجرّد عناوين برّاقة، قناعات فتح الأولى غائبة.. غير موجودة".
 
قناعات البرغوثي لم تتغير، بالرغم من كل سنوات الاعتقال الطويلة والصعبة، بالرغم من سنوات الشباب التي أفناها خلْـف القضبان، ظل يحتفظ بذلك الإصرار وتلك المثابرة، حتى عندما استأنف حياته الطبيعية بعد خروجه من المعقتل، بدأ يتلقى دروسا في استخدام الحاسوب وأخرى في تعلم السياقة، سياقة الشاحنات الكبيرة مرة واحدة، حتى لا يبدأ بالصغيرة، كما قال مُـبتسما.